كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {أَنْ أُخْرَجَ} هو الموعودُ به. فيجوزُ أَنْ تُقَدِّرَ الباءَ قبل (إن) وأَنْ لا تُقَدِّرَها.
قوله: {وقد خَلَتْ} جملةٌ حاليةٌ. وكذلك {وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله} أي: يَسْألأن اللَّهَ. واستغاث يتعدَّى بنفسِه تارةً وبالباء أخرى. وإن كان ابنُ مالكٍ زعمَ أنَّه متعدٍّ بنفسِه فقط. وعابَ قول النحاةِ (مستغاث به) قلت: لكنه لم يَرِدْ في القرآن إلاَّ متعدَّيًا بنفسِه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] {فاستغاثه الذي} [القصص: 15] {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} [الكهف: 29] قوله: {وَيْلَكَ} منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مُلاقٍ له في المعنى دونَ الاشتقاقِ. ومثله: وَيْحَه و ويْسَه و ويْبَه. وإمَّا على المفعول به بتقدير: ألزمَك الله وَيْلَكَ. وعلى كلا التقديرَيْن الجملةُ معمولة لقول مقدرٍ أي: يقولان ويلك آمن. والقول في محلِّ نصب على الحال أي: يَسْتغيثان اللَّهَ قائلين ذلك.
قوله: {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} العامةُ على كسرِ (إن) استئنافًا أوتعليلًا. وقرأ عمرو بن فائد والأعرج بفتحِها على أنها معمولة لـ: {آمِنْ} على حَذْفِ الباءِ أي: آمِنْ بأنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ.
{أولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القول فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ والإنس إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)}.
قوله: {في أُمَمٍ}: كقوله: {في أَصْحَابِ الجنة} [الأحقاف: 16].
{ولكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وليوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)}.
قوله: {وليُوَفِّيَهُمْ}: مُعَلَّلهُ محذوفٌ تقديرُه: جازاهم بذلك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصمٌ وهشامٌ بالياء مِنْ تحتُ. وباقي السبعة بالنونِ. والسُّلمي بالتاءِ مِنْ فوقُ أَسْنَدَ التوفيةَ للدرجات مجازًا.
قوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}: إمَّا استئنافٌ. وإمَّا حالٌ مؤكِّدة.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}.
قوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ}: اليومَ منصوبٌ بقول مقدرٍ أي: يُقال لهم: أَذْهَبْتُمْ في يومِ عَرْضِهم. وجَعَل الزمخشريُّ هذا مثل (عَرَضْتُ الناقةَ على الحوضِ) فيكونُ قَلْبًا. ورَدَّه الشيخُ: بأنه ضرورةٌ. وأيضًا العَرْضُ أمرٌ نسبيٌّ فتصِحُّ نسبتُه إلى الناقةِ وإلى الحوضِ. وقد تقدَّم الكلامُ في القلبِ. وأنَّ فيه ثلاثةَ مذاهبَ.
قوله: {أَذْهَبْتُم} قرأ ابن كثير {أَأَذْهَبْتُمْ} بهمزتَيْن: الأولى مخففةٌ. والثانيةُ مُسَهَّلَةٌ بينَ بينَ. ولم يُدْخِلْ بينهما ألفًا. وهذا على قاعدتِه في {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] ونحوِه. وابنُ عامرٍ قرأ أيضًا بهمزتَيْن. لكن اختلفَ راوياه عنه: فهشام سَهَّل الثانيةَ وخَفَّفَها. وأدخل ألفًا في الوجهيْن. وليس على أصلِه فإنه من أهلِ التحقيق. وابنُ ذكوان بالتحقيقِ فقط دونَ إدخالِ ألفٍ. والباقون بهمزةٍ واحدةٍ فيكونُ: إمَّا خبرًا. وإمَّا استفهامًا. فأُسْقِطَتْ أداتُه للدلالةِ عليها. والاستفهامُ معناه التقريعُ والتوبيخُ.
قوله: {في حياتِكم} يجوزُ تَعَلُّقُه بـ: {أَذْهَبْتُمْ} ويجوزُ تعلُّقُه بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ {طيباتكم}.
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)}.
قوله: {إِذْ أَنذَرَ}: بدلٌ مِنْ {أَخا} بدلُ اشتمالٍ. وتقدَّم تحقيقُه. والأَحْقافُ: جمعُ حِقْف وهو الرَّمْلُ المستطيلُ المِعْوَجُّ ومنه (احْقَوْقَفَ الهِلالُ) قال امرؤ القيس:
فلمَّا أَجَزْنا ساحةَ الحيِّ وانتحى ** بنا بَطْنُ حِقْفٍ ذي قِفافٍ عَقَنْقَلِ

قوله: {وقد خَلَتْ} يجوزُ أَنْ يكونَ حالًا مِن الفاعل أو من المفعول. والرابطُ الواو. والنُّذُر جمعُ نَذير. ويجوزُ أَنْ تكونَ معترضةً بين {أَنْذَرَ} وبين {أَلاَّ تعبدوا} أي: أَنْذَرهم بأَنْ لا.
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هو ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)}.
قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا}: في هاء {رَأَوْه} قولان. أحدهما: أنه عائدٌ على {ما تَعِدُنا}. والثاني: أنه ضميرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُه {عارضًا}: إمَّا تمييزًا أو حالا. قالهما الزمخشريُّ. ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ التمييزَ المفسِّرَ للضميرِ محصورٌ في باب: رُبَّ وفي نِعْمَ وبِئْس. وبأنَّ الحالَ لم يَعْهَدُوها أَنْ تُوَضِّحَ الضميرَ قبلها. وأنَّ النَّحْويين لا يَعْرفون ذلك.
قوله: {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهم} صفةٌ لـ: {عارِضًا} وإضافتُه غيرُ مَحْضةٍ. فمِنْ ثَمَّ ساغ أَنْ يكونَ نعتًا لنكرةٍ وكذلك {مُمْطِرُنا} وقع نعتًا لـ: {عارِض} ومثله:
يا رُبَّ غابِطِنا لوكان يَطْلُبُكُمْ ** لاقى مباعَدَةً منكم وحِرْمانا

والعارِضُ: المُعْتَرِضُ من السحاب في الجوِّ. قال:
يا مَنْ رَأَى عارِضًا أَرِقْتُ له ** بين ذراعَيْ وجَبْهَةِ الأَسَدِ

وقد تقدَّم: أَنَّ أَوْدِيَة جمعُ {وادٍ}. وأنَّ أَفْعِلة شذَّتْ جمعًا لـ: فاعِل في ألفاظٍ: كوادٍ وأَوْدِيَة. ونادٍ وأَنْدِية. وجائِز وأَجْوِزة.
قوله: {ريحٌ} يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو ريحٌ. ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلًا مِنْ {هو}. وقرئ {ما استُعْجِلْتُمْ} مبنيًا للمفعول {وفيها عذابٌ} صفةٌ لـ: {ريحٌ} وكذلك {تُدَمِّرُ}. وقرئ {يَدْمُرُ كُلَّ شَيْءٍ} بالياءِ من تحتُ وسكونِ الدال وضمِّ الميم {كلُّ} بالرفع على الفاعلية أي: يهلك كلُّ شيء. وزيد بن علي كذلك إلاَّ أنه بالتاءِ مِنْ فوقُ ونصبِ {كلَّ}. والفاعلُ ضميرُ الريح. وعلى هذا فيكون دَمَّر الثلاثي لازِمًا ومتعديًا.
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)}.
قوله: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}: قرأ حمزةُ وعاصم {لا يُرَى} بضمِّ الياءِ مِنْ تحتُ مبنيًا للمفعول. {مَسَاكنُهم} بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعلِ. والباقون من السبعةِ بفتح تاءِ الخطاب {مَساكنَهم} بالنصب مفعولا به. والجحدريُّ والأعمش وابنُ أبي إسحاقَ والسُّلميُّ وأبو رجاء بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ مبنيًا للمفعول. {مساكنُهم} بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعل. إلاَّ أنَّ هذا عند الجمهور لا يجوزُ. أعني إذا كان الفاصلُ (إلا) فإنه يمتنع لَحاقُ علامةِ التأنيثِ في الفعل إلاَّ في ضرورةٍ كقوله:
........................... ** وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجراشِعُ

وقول الآخر:
كأنه جَمَلٌ هَمٌّ وما بَقِيَتْ ** إلاَّ النَّحِيزةُ والألواحُ والعَصَبُ

وعيسى الهمداني {لا يُرى} بالياء مِنْ تحتُ مبنيًا للمفعول. {مَسْكَنُهم} بالتوحيد. ونصر بن عاصم بتاء الخطاب {مَسْكَنَهم} بالتوحيد أيضًا منصوبًا. واجتُزِئ بالواحد عن الجمع.
{ولقد مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ ولا أَبْصَارُهُمْ ولا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بآيات اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)}.
قوله: {مَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ}: (ما) موصولةٌ أو موصوفةٌ. وفي (إن) ثلاثةُ أوجهٍ: شرطية وجوابُها محذوفٌ. والجملةُ الشرطيةُ صلةُ ما والتقديرُ: في الذي إنْ مَكَّنَّاكم فيه طَغَيْتُم. والثاني: أنها مزيدةٌ تشبيهًا للموصولةِ بـ: (ما) النافيةِ والتوقيتيةِ. وهو كقوله:
يُرَجِّي المرءُ ما إنْ لا يَراهُ ** وتَعرِضُ دونَ أَدْناه الخُطوبُ

والثالث: وهو الصحيحُ- أنها نافيةٌ بمعنى: مَكَّنَّاهم في الذي ما مكَّنَّاكم فيه من القوةِ والبَسْطَةِ وسَعَةِ الأرزاق. ويدلُّ له قوله تعالى في مواضعَ: {كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [الروم: 9] وأمثالِه. وإنما عَدَلَ عن لفظِ (ما) النافية إلى (إن) كراهيةً لاجتماعِ متماثلَيْن لفظًا. قال الزمخشري: وقد أَغَثَّ أبو الطيبِ في قوله:
لَعَمْرُك ما ما بان منك لِضاربٍ

وما ضَرَّه لواقتدى بعُذوبة لفظِ التنزيل فقال: (ما إنْ بانَ منك).
قوله: {فما أَغْنَى} يجوزُ أَنْ تكونَ (ما) نفيًا. وهو الظاهرُ أواستفهامًا للتقرير. واستبعده الشيخُ لأجْلِ قوله: {مِنْ شيء} قال: إذ يصيرُ التقديرُ: أيُّ شيء أغنى عنهم مِنْ شيءٍ. فزاد (من) في الواجب. وهولا يجوزُ على الصحيح. قلت: قالوا تجوزُ زيادُتها في غيرِ الموجَبِ وفََسَّروا غيرِ الموجَبِ بالنفيِ والنهيِ والاستفهامِ. وهذا استفهامٌ.
قوله: {إذ كانوا} معمول لـ: {أَغْنى} وهي مُشْرَبَةٌ معنى التعليلِ أي: لأنهم كانوا يَجْحَدُون.
{فَلولا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا الِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)}.
قوله: {قُرْبَانًا الِهَةَ}: فيه أربعةُ أوجهٍ. أوجَهُها: أنَّ المفعول الأول لـ: {اتَّخذوا} محذوفٌ هو عائدُ الموصول. {وقُرْبانًا} نُصِبَ على الحال و{الهةً} هو المفعول الثاني للاتخاذ. والتقدير: فهَلاَّ نَصَرهم الذين اتَّخَذُوْهم مُتَقَرَّبًا بهم الهةً. الثاني: أنَّ المفعول الأول محذوفٌ. كما تقدَّم تقريرُه. و{قُرْبانًا} مفعولا ثانيًا و{الهةً} بدلٌ منه. وإليه نحا ابنُ عطية والحوفيُّ وأبو البقاء. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ مَنَعَ هذا الوجهَ قال: لفسادِ المعنى. ولم يُبَيِّنْ جهةَ الفساد. قال الشيخ: ويَظْهَرُ أنَّ المعنى صحيحٌ على ذلك الإِعراب. قلت: ووجه الفسادِ- واللَّهُ أعلم- أنَّ القُرْبان اسمٌ لِما يُتَقَرَّبُ به إلى الإِله. فلوجَعَلْناه مفعولا ثانيًا. والهةً بدلًا منه لَزِمَ أَنْ يكونَ الشيءُ المتقرَّبُ به الهةً. والفَرَضُ أنه غيرُ الالهةِ. بل هو شيءٌ يُتَقَرَّب به إليها فهو غيرُها. فكيف تكون الالهةُ بدلًا منه؟ هذا ما لا يجوزُ. الثالثُ: أنَّ {قُرْبانًا} مفعول مِنْ أجلِه. وعزاه الشيخُ للحوفيِّ. قلت: وإليه ذهب أبو البقاء أيضًا. وعلى هذا فـ: {الهةً} مفعول ثانٍ والأول محذوفٌ كما تقدَّم. الرابع: أَنْ يكونَ مصدرًا. نقله مكيٌّ. ولولا أنَّه ذكر وجهًا ثانيًا وهو المفعول مِنْ أجلِه لأولتُ كلامَه: أنَّه أراد بالمصدرِ المفعول مِنْ أجلِهِ لبُعْدِ معنى المصدر.
قوله: {إفْكُهم} العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ وسكونِ الفاءِ. مصدرُ أَفَكَ يَأْفِك إفْكًا أي: كَذِبُهم. وابن عباس بالفتح وهو مصدر له أيضًا. وابنُ عباس أيضًا وعكرمة والصباح بن العلاء {أَفَكَهُمْ} بثلاثِ فتحات فعلًا ماضيًا. أي: صَرَفَهم. وأبوعياض وعكرمةُ أيضًا. كذلك إلاَّ أنَّه بتشديد الفاءِ للتكثير. وابن الزبير وابن عباس أيضًا {افَكَهم} بالمدِّ فعلًا ماضيًا أيضًا. وهو يحتملُ أَنْ يكونَ بزنةِ فاعَلَ. فالهمزةُ أصليةٌ. وأَنْ يكونَ بزنةِ أَفْعَل. فالهمزةُ زائدةٌ والثانيةُ بدلٌ مِنْ همزةٍ. وإذا قلنا: إنه أَفْعَلَ فهمزتُه تحتملُ أَنْ تكونَ للتعديةِ. وأَنْ يكونَ أَفْعَلَ بمعنى المجرد. وابنُ عباس أيضًا: {افِكُهم} بالمدِّ وكسرِ الفاءِ ورَفْعِ الكافِ. جعله اسمَ فاعلٍ بمعنى صارِفهم. وقرئ {أَفَكُهم} بفتحتين ورفعِ الكافِ على أنَّه مصدرٌ لأَفَكَ أيضًا فتكونُ له ثلاثةُ مصادرَ: الأَفْكُ والإِفْكُ بفتح الهمزة وكسرها مع سكون الفاء وفتح الهمزة والفاء. وزاد أبو البقاء أنه قرئ {افَكُهم} بالمدِّ وفتحِ الفاءِ ورفعِ الكافِ. قال: بمعنى أَكْذَبُهم. فجعله أفْعَلَ تفضيلٍ.
قوله: {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يجوزُ أَنْ تكونَ (ما) مصدريةً وهو الأحسنُ ليُعْطَفَ على مثلِه. وأَنْ تكونَ بمعنى الذي. والعائدُ محذوفٌ أي: يَفْتَرُونه. والمصدرُ مِنْ قوله: {إفْكُهم} يجوزُ أَنْ يكونَ مضافًا إلى الفاعلِ بمعنى كَذبِهم. وإلى المفعول بمعنى صَرْفِهم.
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ ولوا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)}.
قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا}: منصوبٌ بـ: اذْكُرْ مقدَّرًا. وقرئ {صَرَّفْنا} بالتشديدِ للتكثيرِ. {من الجنِّ} صفةٌ لـ: {نَفَرًا}. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بـ: {صَرَفْنا}. و (من) لابتداءِ الغايةِ.
قوله: {يَسْتَمِعُون} صفةٌ أيضًا لـ: {نَفَرًا} أو حال لتخصُّصهِ بالصفةِ. إنْ قلنا: إنَّ {مِنَ الجنِّ} صفةٌ له. وراعى معنى النَّفر. فأعاد عليه الضميرَ جمعًا. ولوراعَى لفظَه وقال: {يَسْتمع} لَجاز.
قوله: {فلَمَّا حَضَرُوْه} يجوزُ أَنْ تكونَ الهاءُ للقرآن. وهو الظاهرُ. وأَنْ تكونَ للرسول عليه السلام. وحينئذٍ يكونُ في الكلام التفاتٌ مِنْ قوله: {إليك} إلى الغَيْبَةِ في قوله: {حَضَرُوه}.
قوله: {قُضِي} العامَّةُ على بنائِه للمفعول أي: فَرَغَ مِنْ قراءة القرآن. وهو يُؤَيِّدُ عَوْدَ هاء {حَضَروه} على القرآن. وأبو مجلز. وحبيب بن عبد الله {قَضَى} مبنيًا للفاعلِ أي: أتَمَّ الرسول قراءته. وهي تؤيِّدُ عَوْدَها على الرسول عليه السلام.
{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمنوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)}.
قوله: {مِّن ذُنُوبِكُمْ}: يجوزُ أَنْ تكونَ تبعيضيَّةً. وأن تكونَ مزيدةً عند مَنْ يرى ذلك.
{أَولم يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ولم يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)}.
قوله: {ولم يَعْيَ}: العامَّةُ على سكونِ العينِ وفتحِ الياءِ مضارعَ عَيِيَ بالكسر يَعْيا بالفتحِ. فلمَّا دَخَلَ الجازمُ حَذَفَ الألفَ. وقرأ الحسن {يَعِيْ} بكسر العين وسكون الياءِ. قالوا: وأصلُها عَيِيَ بالكسرِ. فجعلَ الكسرةَ فتحةً على لغةِ طَيِّئ فصارَ {عَيا} كما قالوا في بَقِيَ: بَقَا. ولما بُني الماضي على فَعَلَ بالفتح جاء بمضارعِه على يَفْعِل بالكسرِ. فصار يَعْيِي مثل: يَرْمي. فلمَّا دَخَلَ الجازمُ حَذَفَ الياءَ الثانيةَ فصار {لم يَعْيِ} بعين ساكنة وياء مكسورة ثم نَقَلَ حركةَ الياءِ إلى العينِ فصار اللفظُ كما ترى. وقد تَقَدَّم أن عَيِيَ وحَيِي فيهما لغتان: الفكُّ والإِدغامُ. فأمَّا {حِيِي} فتقدَّمَ في الأنفال. وعَيَّ فكقوله:
عَيُّوا بأَمْرِهِمُ كما ** عَيَّتْ ببَيْضَتِها الحمَامَهْ

والعِيُّ: عَدَمُ الاهتداءِ إلى جهةٍ. ومنه العِيُّ في الكلامِ. وعيِيَ بالأمرِ: إذا لم يَهْتَدِ لوَجْهه.
قوله: {بقادرٍ} الباءُ زائدةٌ. وحَسَّنَ زيادتَها كونُ الكلامِ في قوةِ (أليسَ اللَّهُ بقادرٍ) وقاس الزجَّاجُ (ما ظَنَنْتُ أنَّ أحدًا بقائمٍ) عليها. والصحيحُ التوقُّفُ. وقرأ عيسى وزيد بن علي والجحدريُّ {يَقْدِرُ} مضارعَ قَدَرَ. والرسمُ يَحْتملُه.
وقوله: {بلى} إيجابٌ لِما تضمَّنَه الكلامُ مِن النفي في قوله: {أَولم يَرَوْاْ}.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالوا بَلَى وَرَبِّنَا قال فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)}.
قوله: {أَلَيْسَ هذا}: معمول لقول مضمرٍ هو حال. كما تقدَّمَ في نظيرِه.
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أولو العزم مِنَ الرُّسُلِ ولا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}.
قوله: {فاصبر}: الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما تقدَّمَ. والسببيَّةُ فيها ظاهرةٌ.
قوله: {من الرسُل} يجوزُ أَنْ تكونَ تبعيضيَّةً. وعلى هذا فالرسلُ أولوعَزْمٍ وغيرُ أولي عَزْمٍ. ويجوز أَنْ تكونَ للبيانِ. فكلُّهم على هذا أُولوعَزْم.
قوله: {بلاغٌ} العامَّةُ على رَفْعِه. وفيه وجهان. أحدهما: أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ. فقدَّره بعضُهم: تلك الساعةُ بلاغٌ. لدلالةِ قوله: {إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} وقيل: تقديرُه هذا أي: القرآن والشرعُ بلاغٌ. والثاني: أنَّه مبتدأٌ. والخبرُ قوله: {لهم} الواقعُ بعد قوله: {ولا تَسْتَعْجِلْ} أي: لهم بلاغٌ. فيُوْقَفُ على {فلا تَسْتعجل}. وهو ضعيفٌ جدًّا للفصلِ بالجملةِ التشبيهية. لأن الظاهرَ تَعَلُّقُ {لهم} بالاستعجال. فهو يُشْبِه التهيئةَ والقطعَ. وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى {بلاغًا} نصبًا على المصدرِ أي: بَلَغَ بلاغًا. ويؤيِّده قراءة أبي مجلز {بَلِّغْ} أمرًا. وقرأ أيضًا {بَلَغَ} فعلًا ماضيًا.
ويُؤْخَذُ مِنْ كلامِ مكيّ أنه يجوزُ نصبُه نعتًا لـ: {ساعةً} فإنه قال: ولو قرئ {بلاغًا} بالنصبِ على المصدر أو على النعتِ لـ: {ساعةً} جاز. قلت: قد قرئ به وكأنه لم يَطَّلِعْ على ذلك.
وقرأ {الحسن} أيضًا {بلاغ} بالجرِّ. وخُرِّجَ على الوصف لـ: {نهار} على حَذْفِ مضافٍ أي: مِنْ نَهارٍ ذي بلاغ. أووصف الزمانُ بالبلاغ مبالغةً.
قوله: {يُهْلَكُ} العامَّةُ على بنائِه للمفعول. وابن محيصن {يَهْلِك} بفتح الياء وكسرِ اللام مبنيًا للفاعل. وعنه أيضًا فتحُ اللامِ وهي لغةٌ. والماضي هلِكَ بالكسر. قال ابن جني: كلٌ مرغوبٌ عنها. وزيد بن ثابت بضمِّ الياءِ وكسرِ اللام والفاعلُ اللَّهُ تعالى. {القومَ الفاسقين} نصبًا على المفعول به. و{نُهْلك} بالنون ونصب {القوم}. اهـ.